Tuesday, May 19, 2015

في الشعر الجاهلي

تأليف: طه حسين

الكتاب الاول : في الشعر الجاهلي
تمهيد
* وهذه المباحث التي اشرت اليها ستنتهي كلها الى تلك النظرية التي قدمتها: وهي ان الكثرة المطلقة مما نسميه الشعر الجاهلي ليست من الشعر الجاهلي في شيء.
* وسينتهي بنا هذا البحث الى نتيجة غريبة وهي انه لا ينبغي ان يستشهد بهذا الشعر وتاويل الحديث، وانما ينبغي ان يستشهد بالقران والحديث على تفسير هذا الشعر وتاويله.
منهج البحث
* اريد ان اصطنع في الادب هذا المنهج الفلسفي الذي استحدثه (ديكارت) للبحث عن حقائق الاشياء في اول هذا العصر الحديث والناس جميعا يعلمون ان القاعدة الاساسية لهذا المنهج هي ان يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل، وان يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن مما قيل فيه خلوا تاما.
مرآة الحياة الجاهلية
يجب ان تلتمس في القران لا في الشعر الجاهلي
* ... فحياة العرب الجاهليين ظاهرة في شعر الفرزدق وجرير وذي الرمة والاخطل والراعى اكثر من ظهورها في هذا الشعر الذي ينسب الى طرفة وعنترة والشماخ وبشر بن ابي خازم.
*... وليس من اليسير بل ليس من الممكن ان نصدق ان القران كان جديدا كله على العرب، فلو كان كذلك لما فهموه ولا وعوه، ولا آمن به بعضهم ولا ناهضه وجادل فيه بعضهم الآخر،
*... واما نصرانية النصارى فلم تكن معارضتها للاسلام ابان حياة النبي قوية قوة المعارضة الوثنية واليهودية. لماذا؟ لان البيئة التي ظهر فيها النبي لم تكن بيئة نصرانية، انما كانت وثنية  في مكة، يهودية في المدينة، ولو ظهر النبي في الحيرة او في نجران للقى من نصارى هاتين المدينتين مثل ما لقى من مشركي مكة ويهود المدينة.
* ... وانما كانوا كغيرهم من الامم القديمة وككثير من الامم الحديثة منقسمين الى طبقتين: طبقة المستنيرين الذين يمتازون بالثروة والجاه والذكاء والعلم، وطبقة العامة الذين لا يكاد يكون لهم من هذا كله حظ.
* ... والقران يحدثنا عن جفوة الاعراب وغلظتهم وامعانهم في الكفر والنفاق وقلة حظهم من العاطفة الرقيقة التي تحمل على الايمان والتدين. اليس هو الذي يقول: "الاعراب اشد كفرا ونفاقا واجدر الا يعلموا حدود ما انزل الله"
الشعرالجاهلي واللغة
* ... بعيد كل البعد عن ان يمثل اللغة العربية في العصر الذي يزعم الرواة انه قيل فيه.
* ... ان العرب ينقسمون الى قسمين: قحطانية منازلهم الاولى في اليمن، وعدنانية منازلهم الاولى في الحجاز.
* وهم متفقون على ان القحطانية عرب منذ خلقهم الله فطروا على العربية فهم العاربة، وعلى ان العدنانية قد اكتسبوا العربية اكتسابا كانوا يتكلمون لغة اخرى هي العبرانية او الكلدانية، ثم تعلموا لغة العرب العاربة فمحت لغتهم الاولى من صدورهم وثبتت فيها هذه اللغة الثانية المستعارة. وهم متفقون على ان هذه العدنانية المستعربة انما يتصل نسبها باسماعيل بن ابراهيم.
الشعر الجاهلي واللهجات
*... قبائل عدنان لم تكن متحدة اللغة ولا متفقة اللهجة قبل ان يظهر الاسلام فيقارب بين اللغات المختلفة ويزيل كثيرا من تباين اللهجات.
* فاذا صح هذا كله كان من المعقول جدا ان تكون لكل قبيلة من هذه القبائل العدنانية لغتها ولهجتها ومذهبها في الكلام، وان يظهر اختلاف اللغات وتباين اللهجات في شعر هذه القبائل الذي قيل قبل ان يفرض القران على العرب لغة واحدة ولهجات متقاربة. ولكننا لا نرى شيئا من ذلك في الشعر العربي الجاهلي. فانت تستطيع ان تقرا هذه المطولات او المعلقات التي يتخذها انصار القديم نموذجا للشعر الجاهلي الصحيح، فسترى ان فيها مطولة لامرىء القيس وهو من كندة اي من قحطان، واخرى لزهير، واخرى لعنترة، وثالثة للبيد، وكلهم من قيس، ثم قصيدة لطرفة، وقصيدة لعمرو ابن كلثوم، وقصيدة اخرى للحارث بن حلزة وكلهم من ربيعة. تستطيع ان تقرا هذه القصائد السبع دون ان تشعر فيها بشيء ان يكون اختلافا في اللهجة او تباعدا في اللغة او تباينا في مذهب الكلام.
* ... اي ان الاسلام قد فرض على العرب جميعا لغة عامة واحدة هي لغة قريش
الكتاب الثاني: اسباب انتحال الشعر
ليس الانتحال مقصودا على العرب
*... ترك اليونان فلسفة وادبا، وترك الرومان تشريعا ونظاما
السياسة وانتحال الشعر
 *... وقد ارادت الظروف ان يضيع الشعر الجاهلي، لان العرب لم تكن تكتب شعرها بعد، وانما كانت ترويه حفظا. فلما كان ما كان في الاسلام من حرب الردة ثم الفتوح ثم الفتن، قتل من الرواة والحفاظ خلق كثير. ثم اطمانت العرب في الامصار ايام بني امية وراجعت شعرها، فاذا اكثره قد ضاع، واذا أقله قد بقي. وهي بعد في حاجة الى الشعر تقدمه وقودا لهذه العصبية المضطرمة. فاستكثرت من الشعر وقالت منه القصائد الطوال وغير الطوال ونحلتها شعرائها القدماء.
*... نعتقد انها لا تقبل الشك، وهي ان العصبية وما يتصل بها من المنافع السياسية قد كانت من اهم الاسباب التي حملت العرب على انتحال الشعر واضافته الى الجاهليين.
الدين وانتحال الشعر
* واعجب من هذا ان السياسة نفسها قد اتخذت الجن اداة من ادواتها وانطقتها بالشعرفي العصر الاسلامي نفسه. فقد اشرنا في الفصل السابق الى ما كان من قتل سعد بن عبادة، ذلك الانصاري الذي أبى ان يذعن بالخلافة لقريش، وقلنا انهم تحدثوا ان الجن قد قتلته. وهم لم يكتفوا بهذا الحديث، وانما رووا شعرا قالته الجن تفتخر فيه بقتل سعد ابن عبادة هذا:
قد قتلنا سيد الخز     رج سعد بن عبادة
ورميناه بسهمين      فلم تخطىء فؤاده
 وكذلك قالت الجن شعرا رثت فيه عمر بن الخطاب:
أبعد قتيل بالمدينة أظلمت                    له الارض تهتز العضاه بأسوق
جزى الله خيرا من امام وباركت           يد الله في ذاك الاديم الممزق
فمن يسع او يركب جناحى نعامة          ليدرك ما حاولت بالامس يسبق
قضيت امورا ثم غادرت بعدها            بوائق في اكمامها لم تفتق
وما كنت اخشى ان تكون وفاته            بكفى سيتنى أزرق العين مطرق
   والعجب ان اصحاب الرواية مقتنعون بان هذا الكلام من شعر الجن. وهم يتحدثون في شيء من الانكار والسخرية بان الناس قد اضافوا هذا الشعر الى الشماخ بن ضرار.
... والغرض من هذا الانتحال –فيما نرجح- انما هو ارضاء حاجات العامة الذين يريدون المعجزة في كل شيء، ولا  يكرهون ان يقال لهم ان من دلائل صدق النبي في رسالته انه كان منتظرا قبل ان يجيء بدهر طويل، تحدثت بهذا الانتظار شياطين الجن وكهان الانس واحبار اليهود ورهبان النصارى.
* ...أخذ المسلمون يردون الاسلام في خلاصته الى دين ابراهيم هذا الذي هو اقدم وانقى من دين اليهود والنصارى.
*... وزعم الاستاذ (كليمان هوار) – في فصل طويل نشرته له المجلة الاسيوية سنة 1804 – أنه قد ظفر من ذلك بشيء قيم واستكشف مصدرا جديدا من مصادر القران، هذا الشيء القيم وهذا المصدر الجديد هو شعر أمية بن أبي الصلت.
*... أن صحة هذا الشعر واستعانة النبي به في نظم القران قد حملتا المسلمين على محاربة شعر أمية بن أبي الصلت ومحوه ليستأثر القران بالجدة وليصح ان النبي قد انفرد بتلقى الوحي من السماء.
*... وليضيع هذا الشعر كما ضاعت الكثرة المطلقة من الشعر الوثني الذي هجا النبي واصحابه حين كانت الخصومة شديدة بينهم وبين مخالفيهم من العرب الوثنيين واليهود.
*ومن هنا تستطيع ان تفهم ما يروى من ان النبي أنشد شيئا من شعر أمية فيه دين وتحنف فقال:"آمن لسانه وكفر قلبه" آمن لسانه لأنه كان يدعو الى مثل ما كان يدعو اليه النبي، وكفر قلبه لأنه كان يظاهر المشركين على صاحب هذا الدين الذي كان يدعو اليه.
* ولكن في شعر أمية بن أبى الصلت أخبار وردت في القرآن كأخبار ثمود والناقة وصالح والناقة والصيحة. ويرى الأستاذ (هوار) أن ورود هذه الأخبار في شعر أمية مخالفة بعض المخالفة لما جاء في القرآن دليل على صحة هذا الشعر من جهة، وعلى أن النبي قد استقى منه أخباره من جهة أخرى.
  ولست أدري قيمة هذا النحو من البحث. فمن الذي زعم أن ما جاء في القرآن من أخبار كان كله مجهولا قبل أن يجيء به القرآن؟ ومن الذي يستطيع ان ينكر ان كثيرا من القصص القرآني كان معروفا بعضه عند اليهود وبعضه عند النصارى وبعضه عند العرب أنفسهم، وكان من اليسير أن يعرفه النبي، كما كان من اليسير أن يعرفه غير النبي من المتصلين بأهل الكتاب.
*... وفي الحق ان اليهود قد استعمروا جزءا غير قليل من بلاد الحجاز في المدينة وحولها وعلى طريق الشام. وفي الحق أيضا ان اليهود قد جاوزت الحجاز الى اليمن.
*... فالقاعدة انه لا يقبل من العربي الا الاسلام أو السيف، فاما الجزية فتقبل من غير العرب.
القصص وانتحال الشعر
الشعوبية وانتحال الشعر
*... ومن الذي يستطيع ان ينكر ان الفرس قد سيطروا قبل الاسلام على العراق واخضعوا لسلطانهم من كان يسكن حضره وباديته من العرب! ومن ذا الذي يستطيع ان ينكر ان الفرس قد أرسلوا جيشا احتل اليمن واخرج منه الحبشة!
* ... ولو ان العرب غلبوا الروم بعد الاسلام وأزالوا سلطانهم كما ازالوا سلطان الفرس واخضعوهم لمثل ما اخضعوا له الفرس لكان للروم مع العرب شأن يشبه شأن الفرس معهم. ولكن العرب لم يقوضوا سلطان الروم وانما اقتطعوا طائفة من أقاليمهم وظلت دولتهم قائمة.
الرواة وانتحال الشعر
الكتاب الثالث: الشعر والشعراء
قصص وتاريخ
* ذلك ان اخبار الجاهليين واشعارهم لم تصل الينا من طريق تاريخية صحيحة، وانما وصلت الينا من هذه الطريق التي تصل منها القصص والأساطير: طريق الرواية والأحاديث، طريق الفكاهة واللعب، طريق التكلف والانتحال.
امرؤ القيس   عبيد    علقمة
*... وكان امرؤ القيس... وكان يئد بناته جميعا
*... ان هذا الشعر الذي يضاف الى امرىء القيس ويتصل بقصته انما هو شعر اسلامي لا جاهلي.
*... وهي ان امرأ القيس –ان، صحت أحاديث الرواة_ يمني، وشعره قرشي اللغة، لا فرق بينه وبين القران في لفظه واعرابه وما يتصل بذلك من قواعد الكلام. ونحن نعلم – كما قدمنا- ان لغة اليمن مخالفة كل المخالفة للغة الحجاز فكيف نظم الشاعر اليمني شعره في لغة أهل الحجاز؟ بل في لغة قريش خاصة؟
* واذا فكيف نظم امرىء القيس اليمني شعره في لغة القرآن مع ان هذه اللغة لم تكن سائدة في العصر الذي عاش فيه امرؤ القيس؟ واعجب من هذا انك لا تجد مطلقا في شعر امرىء القيس لفظا او اسلوبا او نحوا من انحاء القول يدل على انه يمني. فمهما يكن امرؤ القيس قد تاثر بلغة عدنان فكيف نستطيع ان نتصور ان لغته الاولى قد محيت من نفسه محوا تاما ولم يظهر لها أثر ما في شعره؟
* وهم بعد هذا يختلفون كثيرا في رواية القصيدة: في ألفاظها وفي ترتيبها، ويضعون لفظا مكان لفظ وبيتا مكان بيت. وليس هذا الاختلاف مقصورا على هذه القصيدة، وانما يتناول الشعر الجاهلي كله. وهو اختلاف شنيع يكفي وحده لحملنا على الشك في قيمة هذا الشعر. وهو اختلاف قد اعطى للمستشرقين صورة سيئة كاذبة من الشعر العربي، فخيل اليهم انه غير منسق ولا مؤلف، وان الوحدة لا وجود لها في القصيدة وان الشخصية الشعرية لا وجود لها في القصيدة ايضا، وانك تستطيع ان تقدم وتؤخر وان تضيف الى الشاعر شعره دون ان تجد في ذلك حرجا او جناحا ما دمت لم تخل بالوزن ولا بالقافية.
* ... امرىء القيس الذي مهما يتاخر فقد مات قبل مولد النبي.
* ... ذلك انها انتهت بنا الى ان نقف من عبيد وشعره نفس الموقف الذي وقفناه من امرىء القيس وشعره وليس علينا في ذلك ذنب.
عمرو بن قميئة     مهلهل - جليلة
* ولا بد من وقفة قصيرة عند هذين الشاعرين فسترى بعد قليل من التفكير ان حياتهما ليست اوضح ولا اثبت من حياة امرىء القيس وعبيد، وان شعرهما ليس أصح ولا اصدق من شعر امرىء القيس وعبيد.
*... فاذا فمن الذي هلهل الشعر؟ هلهله الذين وضعوه من القصاص والمنتحلين واصحاب التنافس والخصومة بعد الاسلام.
عمرو بن كلثوم    الحارث بن حلزة
* ومهما يكن من شيء، فان في قصيدة ابن كلثوم هذه من رقة اللفظ وسهولته ما يجعل فهمها يسيرا على اقل الناس حظا من العلم باللغة العربية في هذا العصر الذي نحن فيه. وما هكذا كانت تتحدث العرب في منتصف القرن السادس للمسيح وقبل ظهور الاسلام بما يقرب من نصف قرن.وما هكذا كانت تتحدث ربيعة خاصة في هذا العصر الذي لم تسد فيه لغة مضر ولم تصبح فيه لغة الشعر.
طرفة بن العبد
*... وهي ان اقدم الشعراء فيما كانت تزعم العرب وفيما كان يزعم الرواة انما هم يمنيون او ربيعيون. وسواء أكانوا من أولئك أو من هؤلاء فما يروى من أخبارهم يدل على ان قبائلهم كانت تعيش في نجد والعراق والجزيرة اي في هذه البلاد التي تتصل بالفرس اتصالا ظاهرا والتي كان يهاجر اليها العرب من عدنان وقحطان على السواء.
   واذا فنحن نرجح ان هذه الحركات التي دفعت اهل اليمن من ناحية واهل الحجاز من ناحية اخرى الى العراق والجزيرة ونجد، في عصور مختلفة لكنها لا تكاد تتجاوزالقرن الرابع للمسيح، قد أحدثت نهضة عقلية وأدبية، لما كان من اختلاط هذين الجنسين العربيين فيما بينهما ومن اتصالهم بالفرس.
*... ان الذين يقرءون هذا الكتاب قد يفرغون من قراءته وفي نفوسهم شيء من الاثر المؤلم لهذا الشك الادبي الذي نردده في كل مكان من الكتاب وقد يشعرون، مخطئين او مصيبين، باننا نتعمد الهدم تعمدا ونقصد اليه في غير رفق ولا لين وقد يتخوفون عواقب هذا الهدم على الادب العربي عامة وعلى القران الذي يتصل به هذا الادب خاصة.

No comments:

Post a Comment